بين من يَعتبر أن حُكم الإعدام الذي أصدره ​المجلس العدلي​ غيابيًا بحقّ كل من نبيل العلم و​حبيب الشرتوني​ المُتهمين في جريمة إغتيال رئيس الجُمهورية ال​لبنان​يّة المُنتخب ​بشير الجميل​ في 14 أيلول 1982، أنصف الحقّ وأقام العدالة وفرض القانون-ولوّ أنّه جاء مُتأخّرًا 35 سنة، ومن يَعتبر أنّ الحُكم المذكور جائر وتشوبه مُغالطات قانونيّة كثيرة ويحرم المُواطنين اللبنانيّين حقّهم في مُقاومة الإحتلال وفي الإقتصاص من العملاء ومفصول عن السياق التاريخي للحدث... فارق كبير يكشف حجم الإنقسام العَمودي الذي لا يزال يعيشه لبنان، ويُعيد إحياء الخلافات العقائديّة الحادة التي طبعت فترة الحرب. فهل الرئيس الشهيد بشير الجميّل "خائن"؟.

إنطلاقًا من حُجج أنصار وبعض مسؤولي "​الحزب القومي​ السوري" لجهة أنّ ​القضاء اللبناني​ يتّهم بالخيانة أي شخص لُبناني يتعامل مع العدوّ ال​إسرائيل​ي ويُحاكمه بالسجن على هذا الأساس وفقًا للمواد 274 و275 و276 من قانون العُقوبات(1)، فإنّ التواصل المُثبت بالأدلّة للرئيس الراحل مع كبار المَسؤولين الإسرائيليّين عشيّة الإجتياح الإسرائيلي للبنان يَستوجب هذا الحُكم. لكن في المُقابل، إنّ مُؤيدّي ما أصدره المجلس العدلي في قضيّة إغتيال الرئيس بشير يعتبرون أنّ أنصار كل من العلم والشرتوني اللذين أدانهما القضاء اللبناني يتغاضون عن الكثير من الوقائع بشكل يُشوّه الحقائق. وأبرزها:

أوّلاً: في حال سلّمنا جدلاً أنّ أي مسؤول لبناني إرتكب أي خيانة لبلاده، فإنّ السلطة اللبنانيّة هي المُخوّلة الوحيدة لمُحاكمته، وليس أي ميليشيا مُسلّحة، وبالتأكيد ليس عبر تفجير إرهابي أودى بحياة الكثير من المدنيّين والأبرياء. وهذا تمامًا ما إستند إليه حُكم المجلس العدلي لجهة ​البناء​ على قوانين الأعمال الإرهابية لإدانة المحكومين بعيدًا عن أي إعتبارات أو خلفيّات سياسيّة للعمليّة، علمًا أنّ الحُكم طال المُنفّذين الصغار فقط، من دون أن يتناول القيادة العليا التي أعطت الأمر، وهذا بحدّ عينه تساهل كبير إزاء المُنفّذين، خاصة وأنّ المُدان الشرتوني فار من وجه العدالة ويعيش في ​سوريا​ بحسب المعلومات المُتوفّرة، والمُدان العلم توفّي في العام 2014 بحسب المعلومات نفسها. وهذا يعني أنّ الحُكم معنوي فقط لا غير.

ثانيًا: إنّ الإستناد إلى المواد 274 و275 و276 من قانون العُقوبات اللبناني لتبرير عمليّة الإغتيال، يعني أيضًا ومن المُنطلق نفسه أنّه من الضروري إدانة عشرات المسؤولين اللبنانيّين من كل الإتجاهات وفي مختلف الحقبات وُصولاً إلى تاريخنا الحديث، ومن بينهم على سبيل المثال كل من رئيس الجمهورية الراحل إلياس الهراوي، ورئيس الجمهوية السابق إميل لحّود، لأنّهما نسّقا مع جيش أجنبي هو جيش الإحتلال السوري عشيّة عمليّة 13 تشرين الأوّل 1990 (الأوّل بصفته رئيسًا للجُمهورية إنتخب تحت سُلطة جيش مُحتل وغير مُعترف به من قبل كل اللبنانيّين، تمامًا كالرئيس بشير الجميّل، والثاني يوم كان قائدًا مُعيّنًا للجيش من قبل سُلطة غير مُعترف بها من قبل كل اللبنانيّين)، وحرّضاه على إجتياح رمز السلّطة اللبنانية أي مقرّ القصر الجُمهوري، وعلى إسقاط حُكم رئيس الحُكومة الإنتقالية الشرعيّة آنذاك العماد ​ميشال عون​، مع كل ما سبّبته هذه العمليّة من ضحايا ومن خسائر ومن أضرار ومن إرتدادات على كامل الكيان اللبناني وسيادته.

ثالثًا: إنّ الإتهام القائل بأنّ حُكم المجلس العدلي على كل من الشرتوني والعلم جاء "مفصولاً عن السياق التاريخي" لعمليّة الإغتيال، صحيحلكنّه يحمل أكثر من تفسير، ففي تلك الفترة من ​الحرب اللبنانية​ المشؤومة كان لبنان مقسومًا، وكان اللبنانيّون مقسومين، حيث إصطفّ بعضهم إلى جانب فصائل ​فلسطين​يّة مُسلّحة حاولت الإستيلاء بالقوة والمعارك والمجازر على لبنان، ليكون من حيث تدري أو لا تدري وطنًا بديلاً عن فلسطين الضائعة بيد الإسرائيلي، ووقف بعضهم الآخر عسكريًا بوجه هذه الحركة الفلسطينيّة التهجيريّة لأبناء لبنان الأصيلين. وفي تلك المرحلة كان المسيحيّون بقيادة بشير يبحثون عن أي مصدر دعم بالسلاح، بعد أن تركهم العالم الغربي لمصيرهم، في الوقت الذي كانت فيه الأموال والأسلحة تتدفّق من كل حدب وصوب إلى الفصائل الفلسطينيّة والميليشيات اللبنانيّة الداعمة لهم. ولأنّ المجازر التي كانت تحدث في تلك الفترة كانت لا تقلّ ضراوة وعنفًا وفظاعة عن مجازر تنظيم "داعش" الإرهابي في عصرنا الحالي، لم يجد بشير في حينه حيلة لتأمين وسائل الدفاع عن النفس سوى الحُصول على الأسلحة من إسرائيل. وهذا "التبرير" الذي لا يعجب البعض اليوم، لم يكن خيارًا في تلك الفترة، إنّما وسيلة وحيدة لعدم التعرّض للذبح والرمي في البحر!.

رابعًا: إنّ إتهام بشير بالخيانة العُظمى وبالعمالة يعني عمليًا إتهام جزء كبير من اللبنانيّين بذلك، ولعلّ تمثّل كل الأحزاب والقوى المسيحيّة اللبنانيّة في مهرجان الأشرفية الذي أقيم إحتفالاً بالحُكم الصادر على كل من الشرتوني والعلم، وحرص رئيس "التيار الوطني الحُرّ" وزير الخارجيّة ​جبران باسيل​ على المُشاركة شخصيًا بهذا الحدث، هو خير دليل على أنّ الأغلبيّة الساحقة من المسيحيّين، وبطبيعة الحال جزء أساسي من اللبنانيّين، لا يُوافقون إطلاقًا على هذا التوصيف، ويعتبرونه خروجًا على السياق التاريخي لأحداث الحرب اللبنانيّة والتي شهدت إنقسامات عميقة دفعت باللبنانيّين إلى الإستعانة بقوى أجنبيّة مُختلفة ومتعدّدة في هذه الحرب، إراديًا في بعض الأحيان ومن دون أي قُدرة على الإعتراض في كثير من الأحيان الأخرى.

وفي الخُلاصة، من يَعتبر رئيس الجمهورية الراحل بشير الجميل خائنًا لن يقتنع بأي حجة تبريريّة مهما قيل، ومن يعتبره بطلاً قوميًا لن يتزحزح بدوره عن قناعته مهما سيق من إتهامات. لكنّ الأكيد أنّه على اللبنانيّين جميعهم المُوافقة على أنّ الإغتيال السياسي يُمثّل جرائم إرهابيّة لا يجب أن يُساندها أحد أيّا تكن الدوافع والمُبررات، وعلى اللبنانيّين جميعهم أن يقتنعوا أيضًا أنّ المُصالحة الحقيقية تبدأ بوقف إلقاء تهم الخيانة والعمالة على بعضهم، خاصة عند الحديث عن زمن كانت تستقوي فيه أغلبيّة اللبنانيّين بقوى غير لبنانيّة لتحقيق إنتصارات وهميّة على أبناء وطنهم، لا سيّما وأنّ جزءًا من هذه التهم يأتي من أشخاص ومن مُؤيّدين لحزب لا يعترف بالكيان اللبناني كوطن نهائي لجميع أبنائه، ويطمحون لأن يُصبح جزءًا من منظومة جغرافية أوسع تُحتّم إضمحلاله كونه أقليّة صغيرة ضُمن هذه المنظومة!

المادة 274: كل لبناني دسّ الدسائس لدى دولة أجنبيّة أو إتصل بها ليدفعها إلى مُباشرة العدوان على لبنان أو ليُوفّر لها الوسائل إلى ذلك عُوقب بالأشغال الشاقة المُؤبّدة. وإذا إقتضى فعله إلى نتيجة عُوقب بالإعدام.

المادة 275: كل لبناني دسّ الدسائس لدى العدوّ أو اتصل ليُعاونه بأي وجه كان على فوز قواته عُوقب بالإعدام.

المادة 276: يُعاقب بالأشغال الشاقة المُؤبدة كل لبناني أقدم يأي وسيلة كانت قصد شل الدفاع الوطني (...). يُقضى بالإعدام إذا حدث الفعل في زمن الحرب (...).